الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بك بن دلغادر صاحب أبلستين وحمو الملك الظاهر جقمق بأبلستين في أوائل جمادى الآخرة وقيل إنه قتل على فراشه والأول أصح وكان كثير الشرور والعصيان على الملوك وقد مر من ذكره في ترجمة الملك الأشرف من عصيانه وموافقته مع الأتابك جانبك الصوفي ثم في ترجمة الملك الظاهر جقمق من دخوله في طاعته وقدومه إلى القاهرة ما يغني عن إعادته ثانيًا هنا.
: الماء القديم ثمانية أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا وأحد وعشرون إصبعًا. السنة السادسة من سلطنة الظاهر جقمق فيها توفي الشيخ الإمام العالم الفقيه الرباني الصوفي شمس الدين محمد بن حسن المعروف بالشيخ الحنفي بزاويته خارج قنطرة طقزدمر من ظاهر القاهرة في أوائل شهر ربيع الأول وهو في حدود الثمانين ودفن بزاويته المذكورة. وكان دينًا خيرًا فقيهًا عالمًا مسلكًا كان يعظ الناس ويعلمهم وكان على وعظه رونق ولكلامه وقع في القلوب. وأفنى عمره في العبادة وطلب العلم وإطعام الطعام وبر الفقراء والقادمين عليه. وكان محظوظًا من الملوك ولهم فيه اعتقاد ومحبة زائدة. وصحب الوالد سنين كثيرة ثم الملك الظاهر ططر ونالته منه السعادة في أيام سلطنته. واجتمعت به غير مرة وانتفعت بمجالسته. وكان الناس فيه على قسمين: ما بين متغال إلى الغاية وما بين منكر إلى النهاية. قلت: وهذا شأن الناس في معاصريهم رحمه الله تعالى. وتوفي الشيخ الإمام العالم العلامة زين الدين أبو بكر إسحاق بن خالد الكختاوي الحنفي المعروف بالشيخ باكير شيخ الشيوخ بخانقاه شيخون في ليلة الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى وحضر السلطان الملك الظاهر جقمق الصلاة عليه بمصلاة المؤمني من تحت القلعة ثم أعيد إلى الشيخونية فدفن بها. واستقر عوضه في مشيخة الشيخونية العلامة كمال الدين محمد بن الهمام. وكان الشيخ باكير المذكور إمامًا عالمًا بارعًا مفننًا في علوم كثيرة. وولي قضاء حلب مدة طويلة وحمدت سيرته وأفتى ودرس وأشغل سنين كثيرة بحلب ثم بمصر لما طلبه السلطان من قضاء حلب وولاه مشيخة الشيخونية غير أنه كان في لسانه شبه لكنة مع سكون وعقل زائد يؤدي ذلك إلى عدم الانتصاف في أبحاثه. ومع هذا كان تقريره للطلبة في غاية الحسن والفصاحة. ومحصول أمره أنه كان عالمًا مفيدًا للطلبة غير بحاث مع أقرانه من العلماء. وكان مليح الشكل منور الشيبة طاهر اللون وقورًا معظمًا عند الخاص والعام وكان مولده بمدينة كختا في حدود السبعين وسبعمائة رحمه الله تعالى. وتوفي فتح الدين صدقة المحرقي ناظر الجوالي في ليلة الخميس سلخ شوال ودفن خارج باب الجديد من القاهرة. وكان عاميًا في زي فقيه لم أعرفه إلا في دولة الملك الظاهر جقمق لأنه كان بخدمته ورقاه في سلطنته. وتوفي غرس الدين خليل ابن أحمد السخاوي ناظر الحرمين: القدس والخليل عليه السلام في ليلة العشر من جمادى الأولى. وكان أيضًا من أطراف الناس وهو أحد من رقاه الملك جقمق. وكان في مبدأ أمره يبيع الحلوى ثم صار جابيًا للأملاك يجبي وعلى كتفه خرج ثم خدم جماعة كبيرة إلى أن حسنت حاله وصار يركب بغلة برحل رأيته أنا على تلك الهيئة. ثم خدم الملك الظاهر جقمق أيام إمرته ولازم خدمته إلى أن تسلطن فقربه وولاه نظر الحرمين وعده الناس من الأعيان فلم تطل مدته ومات. وكان يتدين من صلاة وعبادة إلا أنه كان عاريًا سالبة وتوفي المقام الناصري محمد بن السلطان الملك الظاهر جقمق في ليلة السبت ثاني عشرين ذي الحجة بقلعة الجبل بعد مرض طويل وصلي عليه من الغد بباب القلة من قلعة الجبل وحضر والده السلطان الملك الظاهر جقمق الصلاة عليه ودفن بتربة عمه جاركس القاسمي المصارع التي جددها مملوكه قاني باي الجاركسي عند دار الضيافة تجاه سور القلعة. ومات وهو في حدود الثلاثين تخمينًا. وأمه الست قراجا بنت الأمير أرغون شاه أمير مجلس الملك الظاهر برقوق. وكان مولده بالقاهرة وبها نشأ تحت كنف والده. وحج وسافر مع والده إلى آمد في سنة ست وثلاثين. واشتغل اشتغالًا يسيرًا حتى برع في المعقول وشارك في المنقول. وساد في فنون كثيرة من العلوم يساعده في ذلك جودة ذهنه وحسن تصوره وعظيم حفظه حتى صار معدودًا من العلماء ولا نعلم أحدًا من أبناء جنسه من ابن أمير ولا سلطان وصل إلى هذه الرتبة غيره قديمًا ولا حديثًا بل ولا في الدولة التركية قاطبة من المشاهير أولاد الملوك هذا مع المحاضرة الحسنة والمذاكرة اللطيفة والنوادر الطريفة والإطلاع الزائد في أخبار السلف وأيام الناس. وكان يسألني عن مسائل دقيقة مشكلة في التاريخ على الدوام لم يسألني عنها أحد من بعده إلى يومنا هذا. وأما حفظه للشعر باللغتين التركية والعربية فغاية لا تدرك. وكان مجلسه لا يبرح مشحونًا بالعلماء مشايخ الإسلام يتداولونه بالنوبة فكان لقاضي القضاة شهاب الدين بن حجر وقت يحضر فيه في كل جمعة مرتين ولقاضي القضاة سعد الدين بن الديري الحنفي وقت غير ذلك يحضر فيه أيضًا في الجمعة مرتين وأما العلامة محيي الدين الكافيجي الحنفي والعلامة قاسم الحنفي فكانا يلازمانه في غالب الأوقات ليلًا ونهارًا. وأما غير هؤلاء من الطلبة الأعيان فكثير يطول الشرح في ذكرهم. وكان مع هذه الفضيلة التامة والرئاسة الضخمة والتوشيح للسلطنة متواضعًا بشوشًا هينًا لينًا مع حسن الشكالة وخفة الروح والميل إلى الطرب على قاعدة الصوفية والعقلاء من الرؤساء وكان لا يمل من المحاضرة والمذاكرة بالعلوم والفنون وكان رميه بالنشاب في غاية الجودة ويشارك في ملاعيب كثيرة لولا سمن كان اعتراه وكره هو ذلك وأخذ يتداوى في منع السمن بأشياء كثيرة ربما كان بعضها سببًا لهلاكه مثل شرب الخل على الريق ومنع أكل الخبز سنين وكثرة دخول الحمام حتى إنه كان غالب جلوسنا معه في الخلوة في مسلخ الحمام الذي ابتناه بطبقة الغور من القلعة وبداخله في الحرارة وأشياء غير ذلك وكان بيني وبينه صحبة قديمة وحديثة ومحبة زائدة ثم صار بيننا أيام سلطنة والده صهارة فإنه تزوج ببنت الأتابك آقبغا التمرازي وهي بنت كريمتي ولم يفرق بيننا إلا الموت رحمه الله تعالى. ولقد كان حسنة من حسنات الدهر خليقًا للملك والسلطنة ولو طال عمره إلى أن آل إليه الأمر لما اختلف عليه اثنان غصبًا ومروءة فإنه كان هينًا مع الهين فتاكًا على العسر وأنا أعرف بحاله من غيري ولقد سمعت منه كلمات من أفعال يفعلها إن تم أمره في الملك تدل على معقول وتدبير عظيم وحدس صائب وإقماع المفسدين لم أسمعها من أحد غيره كائنًا من كان. وأنا أقول: لو ملك الديار المصرية وتم أمره نفقت في أيامه بضائع أرباب الكمالات الكاسدة من كل علم وفن وظهرت من الزوايا خبايا وتجدد ما بعد عهده من الطرائف وأبدى كل استاذ من فنه أعاجيب ولطائف ومن أجله صنفت هذا الكتاب من غير أن يأمرني بتصنيفه غير أني قصدت بترتيب هذا الكتاب من ذكر ملك بعد ملك أنه إذا تسلطن أختم هذا الكتاب بذكره بعد أن استوعب أحواله وأموره على طريق السيرة ولوحت له بذلك فكاد يطير فرحًا وبينا نحن في ذلك انتقل إلى رحمة الله تعالى فكان حالي معه كقول مسعود بن محمد الشاعر: الكامل بأبي حبيب زارني متنكرًا فبدا الوشاة له فولى معرضا فكأنني وكأنه وكأنها أمل ونيل حال بينهما القضا وأحسن من هذا قول من قال وهو في معنى فقده: الطويل غدا يتنأى صاحب كان لي إنسًا فلا مصبحًا لي بالسرور ولا ممسا أمر النيل. في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وثلاثة وعشرون إصبعًا. السنة السابعة من سلطنة الظاهر جقمق وهي سنة ثمان وأربعين وثمانمائة. فيها لهج المنجمون بأن في هذه السنة يكون انقضاء مدة الملك الظاهر جقمق من ملك مصر فإنهم كانوا أجمعوا على أنه لا يقيم في الملك أكثر من سبع سنين. وكان هذا القول بعد أقوال كثيرة في مدة ملكه فلم يصدقوا في واحد منها ومضت هذه السنة والسلطان في خير وعافية. وفيها كان الطاعون بالديار المصرية وكان مبدأه في ذي الحجة من السنة الخالية وعظم في المحرم من هذه السنة وأوائل صفر ومات فيه عالم كبير جدًا حسبما تقدم ذكره. وفيها أعني سنة ثمان وأربعين المذكورة توفي الخطيب الواعظ شمس الدين محمد الحموي خطيب الجامع الأشرفي بالعنبريين في يوم الأربعاء ثالث ذي القعدة عن نيف وسبعين سنة تخمينًا. وكان يعظ الناس في الأماكن ويعمل المواعيد وكان له قبول من العامة والنسوة وكان وتوفي الأمير الطواشي فيروز بن عبد الله الجاركسي الرومي الساقي الزمام بطالًا بالقاهرة في يوم الأربعاء رابع عشر شعبان ودفن بمدرسته التي أنشأها بالقرب من داره عند سوق القرب بالقرب من الحارة الوزيرية بالقاهرة. وكان أصله من خدام الأمير جاركس القاسمي المصارع المقدم ذكره في دولة الملك الناصر فرج وترقى بعد موته إلى أن صار ساقيًا للسلطان وحظي عند الملك المؤيد شيخ ثم عند الأشرف برسباي ثم انحط قدره وعزله الأشرف وأخرجه إلى المدينة ثم أعاده بعد مدة واستقر به ساقيًا على عادته ودام على ذلك حتى غضب عليه في مرض موته بعد أن وسط الحكيمين وعزله عن وظيفة السقاية بعد أن هدده بالتوسيط. فلزم فيروز هذا بيته إلى أن مات الملك الأشرف وصار الأمر إلى الملك الظاهر جقمق فطلبه وولاه زمامًا عوضًا عن جوهر الجلباني اللالا بحكم عزله ومصادرته وذلك في أحد الربيعين من سنة اثنتين وأربعين فظن كل أحد بطول مدة فيروز هذا في وظيفة الزمامية لكونه من خدام أخي السلطان الأمير جاركس فلم يقم في الوظيفة إلا نحو ستة أشهر وعزل لكونه فرط في أمر الملك العزيز حين فر من الدور السلطانية وتقدم ذكر ذلك كله في أصل هذه الترجمة. وولى السلطان عوضه زمامًا جوهر الخازندار القنقبائي ولزم فيروز هذا بيته خاملًا إلى أن مات. وكان لا بأس به في أبناء جنسه لتجمل كان فيه ومحاضرة حسنة. وهو أحسن الثلاثة حالًا ممن اسم كل واحد منهم فيروز وهم في عصر واحد أولهم فيروز هذا وثانيهم فيروز النوروزي وثالثهم فيروز الركني نائب مقدم المماليك كان. وتوفي الأمير حمزة بن قرايلك - واسم قرايلك عثمان بن طرعلي - صاحب ماردين وغيرها من ديار بكر في أوائل شهر رجب ووصل الخبر بموته إلى القاهرة في العشرين من شعبان وكان غير مشكور السيرة على قاعدة أوباش التركمان الفسقة. وتوفي الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله الأبوبكري المؤيدي نائب غزة خارج غزة قتيلًا بيد العربان الخارجة عن الطاعة في أواخر ذي الحجة وتولى نيابة غزة بعد الأمير يلخجا من مامش الساقي الناصري. وكان أصل طوخ هذا من مماليك الملك المؤيد شيخ وخاصكيته وتأمر بعد موته بالبلاد الشامية ثم صار أتابك غزة سنين طويلة إلى أن نقله الملك الظاهر جقمق إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق. ثم ولاه بعد مدة يسيرة نيابة غزة بعد موت الأمير طوخ مازي الناصري فدام على نيابتها إلى أن خرج من غزة وواقع العربان وكسرهم وبعد كسرتهم تهاون في أمرهم ونزل بمكان فعادوا نحوه وهجموا عليه فركب بمن معه وقاتلهم حتى قتل هو وجماعة من مماليكه وغيرهم. وكان شجاعًا مقدامًا إلا أنه كثير الطمع. الماء القديم ستة أذرع وخمسة عشر إصبعًا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وأربعة عشر إصبعًا. السنة الثامنة من سلطنة الظاهر جقمق وهي سنة تسع وأربعين وثمانمائة. فيها توفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إسماعيل بن محمد الونائي الشافعي الفقيه العالم معزولًا عن قضاء دمشق بالقاهرة في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر ودفن من الغد بالقرافة وصلى عليه رفيقه في الاشتغال قاضي القضاة شمس الدين محمد القاياتي الشافعي. ومولده في شعبان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ببلده ثم انتقل إلى القاهرة وطلب العلم وحفظ " التنبيه " في الفقه وعدة مختصرات وأقبل على الاشتغال ولازم علماء عصره. وأول اشتغاله كان في سنة سبع وثمانمائة. وتكسب بتحمل الشهادة مدة إلى أن برع في الفقه والعربية والأصول وتولى مشيخة التنكزية بالقرافة ثم تدريس الفقه بالشيخونية. ثم طلبه الملك الظاهر جقمق وولاه قضاء الشافعية بدمشق من غير سعي في سنة وأربعين فباشر قضاء دمشق بعفة وعرف بالصيانة والديانة إلى أن عزل وعاد القاهرة ثم وليها ثانيًا فباشرها أيضًا مدة ثم عزل وقدم القاهرة وتولى تدريس قبة الإمام الشافعي إلى أن مات في التاريخ المذكور. وكان معدودًا من العلماء أحد من جمع بين معرفة المنقول والمعقول رحمه الله. وتوفي الأمير الكبير سيف الدين يشبك بن عبد الله السودوني المعروف بالمشد أتابك العساكر بالديار المصرية في يوم الخميس ثالث شعبان وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمني. وتولى الأتابكية من بعده الأمير إينال العلائي الناصري الدوادار الكبير. وكان أصل يشبك هذا من مماليك سودون الجلب نائب حلب ومات عنه فباعه الأمير يشبك الساقي الأعرج وهو يوم ذاك نائب قلعة حلب للأمير ططر فأعتقه ططر وجعله من جملة مماليكه فنازعه بعد مدة أيتمش الخضري وهو يوم ذاك متحدث على أيتام الملك الناصر فرج وطلبه منه فادعى ططر أنه اشتراه من يشبك الساقي الأعرج وهو وصي سودون الجلب فقال أيتمش: بيع يشبك له غير صحيح لأن سودون الجلب انحصر إرثه في أولاده الملك الناصر وأنا المتحدث على أولاد الملك الناصر فاشتراه ططر ثانيًا منه بمائة دينار. ثم جعله ططر شاد شراب خاناته حتى تسلطن فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه وجعله شاد الشراب خاناه السلطانية فدام على ذلك سنين إلى أن أنعم عليه الملك الأشرف برسباي بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر ثم جعله حاجب الحجاب بعد قرقماس الشعباني بعد توجهه إلى نيابة حلب ثم نقله الملك الظاهر جقمق في أوائل سلطنته إلى إمرة مجلس بعد آقبغا ثم إلى إمرة صلاح عوضًا عن آقبغا التمرازي أيضًا ثم بعد أشهر خلع عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد قدومه من بلاد الصعيد عوضًا عن آقبغا التمرازي أيضًا بحكم انتقال آقبغا إلى نيابة دمشق بعد خروج إينال الجكمي عن الطاعة كل ذلك في أشهر قليلة من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة. فدام يشبك في الأتابكية سنين ونالته السعادة وعظم وضخم في الدولة إلى أن اعتراه مرض تمادى به سنين ويقال إنه سم وحصل له ارتخاء في أعضائه ثم عوفي قليلًا وركب إلى الخدمة ثم نقض عليه ألمه فمات منه بعد أيام يسيرة. وكان عاقلًا ساكنًا حشمًا إلا أنه كان عاريًا من كل علم وفن غير أنه كان يحسن رمي النشاب على عيوب كانت في رميه. وكنت أظنه أولًا دينًا إلى أن أخذ إقطاع الأتابك آقبغا التمرازي وصار بيننا وبينه مستحق أيتام آقبغا في الإقطاع المذكور فإذا به لا يحلل ولا يحرم وعنده من الطمع وقلة الدين ما يقبح ذكره عن كائن من كان هذا مع حدة زائدة وشراسة خلق وظلم زائد على حواشيه وخدمه حتى إنه كان يضرب الواحد منهم نحو ألف عصاة على الذنب اليسير. ولم يكن له مهابة في النفوس لكونه كان من مماليك سودون الجلب وأيضًا من قرب عهده بالفقر وخدم الأمراء مع من كان عاصره من أكابر الأمراء الظاهرية البرقوقية ممن وتوفي الأمير سيف الدين قاني باي الجكمي حاجب حجاب حلب على هيئة نسأل الله تعالى حسن الخاتمة في أواخر هذه السنة. وكان من خبر موته أنه سكر ونام في أيام الشتاء وقد أوقد النار بين يديه على عادة الحلبيين وغيرهم فعظم الدخان عليه وعلى مملوكه في البيت وصارا من غلبة السكر لا يهتدي كل منهما إلى الخروج من باب الدار من عظم الدخان وشدة السكر فماتا على تلك الحالة وكتب بذلك محضر وأرسل إلى السلطان لئلا يتوهم خلافه. وكان أصل قاني باي هذا من مماليك الأمير جكم من عوض نائب حلب ثم صار بعد موت الملك المؤيد شيخ خاصكيًا. ودام على ذلك دهرًا طويلًا لا يلتفت إليه إلى أن خلع عليه الملك الظاهر جقمق باستقراره في حجوبية حجاب حلب دفعة واحدة من الجندية وعيب ذلك على الملك الظاهر لكون قاني باي المذكور لم يكن من أعيان الخاصكية ولا من المشاهير بالشجاعة والإقدام ولا من العقلاء العارفين بفنون الفروسية بل كان مهملًا مسرفًا على نفسه عاريًا من كل علم وفن ولم يدر أحد لأي معنى كان قدمه الملك الظاهر جقمق فرحمه الله تعالى وسامحه على هذه الفعلة فإنها عدت من غلطاته الفاحشة التي ليس لها وجه من الوجوه. قلت: وكما جاءته السعادة فجاءة جاءه الموت أيضًا فجاءة عفا الله عنه. أمر النيل في هذه السنة: السنة التاسعة من سلطنة الظاهر جقمق وهي سنة خمسين وثمانمائة. فيها توفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب القاياتي الشافعي قاضي قضاة الديار المصرية في العشر الأخير من المحرم وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمني من تحت القلعة ودفن بتربة الصوفية خارج باب النصر. وكان مولده بقايات في سنة خمس وثمانين وسبعمائة تخمينًا ثم نقل إلى القاهرة مع والده وحفظ عدة مختصرات وحضر دروس السراج البلقيني في آخر عمره ثم تفقه بعمه الشيخ ناصر الدين القاياتي وبجماعة أخر حتى برع الفقه والعربية والأصلين وعلمي المعاني والبيان وشارك في عدة فنون وسمع الحديث في مبدأ أمره وحدث ببعض مسموعاته وتكسب مدة سنين بتحمل الشهادة بجامع الصالح خارج باب زويلة إلى أن قرر طالبًا بالمجامع المؤيدي داخل باب زويلة. . . ثم ولي تدريس الحديث بالمدرسة البرقوقية عوضًا عن الشيخ زين الدين القمني ثم استقر في تدريس الفقه بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين ثم ولي مشيخة خانقاه سعيد السعداء بعد موت القاضي شهاب الدين بن المحمرة وتصدى للإفتاء والتدريس والإقراء سنين وانتفع به الطلبة. وكان مع براعته في العلوم متقشفًا في ملبسه ومركبه بل كان يمشي على أقدامه في غالب حاجاته إلى أن طلبه الملك جقمق ليوليه قضاء الشافعية فطلع بحضرتي على حمار إلى باب القلعة ثم نزل ودخل إلى السلطان وكان السلطان يعرفه من دروس العلامة علاء الدين البخاري فكلمه السلطان في الولاية وأنا أظن أنه لا يقبلها أبدًا فامتنع امتناعًا ليس بذاك ثم أجاب. وأصبح تولى القضاء ونزل وبين يديه وجوه الدولة وهو بغير خلعة بل بطيلسانه وامتنع من لبس الخلعة كونها تعمل من وجه غير مقبول عنده وكان ذلك في يوم رابع عشر محرم سنة تسع وأربعين. ونزل إلى المدرسة الصالحية بين القصرين وقام بعض الرسل ليدعي على شخص فلم يسمع دعواه وقال: " هذه حيلة واصطلاح ". ففرح الناس بولايته وظنوا أنه يحملهم على الحق المحض من طريق السلف ويحيي سنة قضاة العدل فوقع خلاف ذلك كله وسار على طريق القوم وأكثر من النواب وراعى أرباب الدولة وتعاظم حتى في سلامه وحب المنصب حبًا حتى لعله لو عزل منه لمات أسفًا عليه هذا مع ما كان علمه من العلم والعبادة والصيانة. ولما أن خطب بالسلطان في يوم الجمعة على عادة قضاة الشافعية ورقي المنبر لم يخشع أحد لخطبته لمسكة كانت في لسانه وعدم طلاقة وكانت هذه عادته حتى في تقرير دروسه. وكان يقرىء العلم على قاعدة الأعاجم من كتاب في يده. وكان فيه بعض توسوس لا سيما في تكرير النية عند دخوله إلى الصلاة فلما ولي القضاء وخطب ونزل وصلى بالسلطان زال عنه ذلك ببركة المنصب. وأنا أقول كانت حالته الأولى تعجبني وتعجب كل أحد من الناس ولم تعجبني أحواله بعد ولايته رحمه الله وسامحه. وتوفي القاضي بهاء الدين محمد ابن قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي الدمشقي المولد والمنشأ الشافعي ناظر جيش دمشق بمنظرة البرابخية بخط بولاق على النيل في يوم ثالث عشرين صفرة وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمني من تحت قلعة الجبل ودفن بالقرافة الصغرى تجاه شباك الإمام الشافعي وهو في حدود الأربعين من العمر تخمينًا. وكان ولي قضاء دمشق بعد موت والده ثم نقل إلى نظر جيشها ثم قدم القاهرة وتولى نظر جيش مصر بعد عزل القاضي محب الدين بن الأشقر مضافًا لوظيفة نظر جيش دمشق فلم ينتج أمره وعزل بعد أشهر وخلع عليه باستقراره على وظيفة نظر جيش دمشق. ثم قدم القاهرة بعد ذلك ودام بها عند حميه المقر الكمالي ابن البارزي كاتب السر إلى أن مرض وطال مرضه إلى أن مات في التاريخ المذكور. وكان شابًا طوالًا جميلًا جسيمًا طويل اللحية جدًا كريمًا مفرط الكرم ومات وعليه جمل من الديون فوفى موجوده بقضائها رحمه الله تعالى. وتوفي الشيخ عز الدين عبد العزيز شيخ الصلاحية بالقدس الشريف في أوائل شهر رمضان وتولى عوضه مشيخة الصلاحية جمال الدين عبد الله بن جماعة بمال بذله في ذلك وكان عز الدين فقيهًا عالمًا مفتيًا وتولى نيابة الحكم بالقاهرة سنين كثيرة رحمه الله تعالى. وتوفي الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن رجب ابن الأمير طيبغا المجدي الشافعي في ليلة العاشر من ذي القعدة وصلي عليه بجامع الأزهر. وكان مولده بالقاهرة في سنة سبع وستين وسبعمائة وبها نشأ واشتغل حتى برع في الفقه والعربية والحساب والفرائض والهيئة والهندسة وصنف وأقرأ وأشغل وانتفع به الناس. وكان أجل علومه الفرائض والحساب ويشارك في غير ذلك. وتوفي الشيخ الصالح المعتقد يوسف أبن محمد بن جامع البجري نزيل جامع الأزهر في ليلة الأحد حادي عشر ذي القعدة وصلي عليه من الغد في جامع الأزهر وحضرت غسله والصلاة عليه ودفنه لصحبة كانت بيننا قديمًا. وكان شيخًا جميل الطريقة قائمًا بقضاء حوائج الناس ولأرباب الدولة والأكابر فيه اعتقاد كبير ومحبة رحمه الله تعالى. وتوفي الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله السيفي سودون المحمدي الظاهري - وكانت شهرته أيضًا على شهرة أستاذه سودون المحمدي - وهو على نيابة قلعة دمشق في أوائل صفر. كان خاصكيًا في دولة الأشرف برسباي ورأس نوبة الجمدارية وولي نظر الحرم بمكة المشرفة غير مرة وهو الذي هدم سقف البيت الحرام وجدده وعظم ذلك على أرباب الصلاح وأهل العلم بل ربما خرج بعضهم من مكة خشية من سخط ينزل بها لكون البيت صار بلا سقف عدة أيام وكان هدمه لسقف البيت من غير أمر يوجب ذلك أراد بذلك التقرب إلى الله تعالى بهذه الفعلة فوقع في أمر كبير وهو لا يدري - كعادة صلحاء الجهال - فكان حاله في هذا كقول القائل: الخفيف رام نفعًا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ومن يوم هدم سودون سقف الكعبة صار الطير يجلس على البيت الشريف وكان لا يجلس فوقه أبدًا قبل ذلك وقد أتعب ذلك خدمة الكعبة. فلو لم يكن من فعله إلا هذا لكفاه إثمًا. كل ذلك لظن سودون المذكور بنفسه فإنه لم يشاور في ذلك أحدًا من أعيان أهل مكة ولا تكلم مع من له خبرة بأحوال مكة وقد قيل: " ما خاب من استشار ". وكان يتدين ويتمعقل ويعف عن الفواحش غير أنه كان يقع في أمور محذورة منها: أنه كان إذا سلم عليه الشخص لا يرد سلامه تكبرًا وتعاظمًا وإذا رد فيرد ردًا هينًا خلاف السنة ومنها أنه كان فيه ظلم عظيم على خدمه وحواشيه. هذا مع انخفاض قدره فإنه لم يتأمر إلا عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق ثم عمل نيابة قلعة دمشق لا غير على أن أستاذه سودون المحمدي لم يعد من الملوك فكيف هو!. وتوفي الأمير سيف الدين يلخجا بن عبد الله من مامش الساقي الناصري الرأس نوبة الثاني ثم نائب غزة بعد مرض طويل في أوائل جمادى الآخرة نيف على خمسين سنة. وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق أخذه مع أبيه وأمه ثم أنعم به على ولده الملك المنصور عبد العزيز ثم ملكه الملك الناصر فرج أخيه عبد العزيز المذكور ورقاه وجعله ساقيًا واختص به إلى الغاية ورأس على جميع الناصرية. واستمر على رئاسته وتحشمه إلى أن عزله الملك المؤيد من السقاية ولم يبعده بل صار عظيمًا أيضًا في الدولة المؤيدية بل في كل دولة لكرم نفسه ولعظمه في النفوس. وسافر أمير الركب الأول إلى الحجاز في الدولة المؤيدية واستمر على ذلك إلى أن أنعم عليه الملك الأشرف برسباي بإمرة عشرة. وحج أيضًا أمير الركب الأول ثانيًا ثم توجه إلى شد بندر جدة وصحبته الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ بعد عزله عن الوزر والأستادارية ثم ترقى بعد ذلك إلى أن صار أمير طبلخاناة ورأس نوبة ثانيًا في دولة الملك الظاهر جقمق ثم نقل إلى نيابة غزة بعد موت الأمير طوخ الأبوبكري المؤيدي فلم تطل مدته في نيابة غزة ومرض وطال مرضه واستعفى وتوجه إلى القدس عليلًا فمات بعد أيام قليلة ودفن بجامع ابن عثمان ظاهر غزة. وكان أميرًا جليلًا رئيسًا وجيهًا معظمًا في الدول عريقًا في الرئاسة متجملًا في مركبه وملبسه ومماليكه وكان تركي الجنس مليح الشكل إلى الغاية عنده سلامة باطن مع خفة روح وبشاشة وتواضع مع شجاعة وإقدام وحرمة وافرة وكلمة نافذة ولم يكن فيه ما يعاب غير انهماكه في اللذات وبعض سطوة على غلمانه عفا الله عنه. وتوفي الأمير الطواشي صفي الدين جوهر بن عبد الله التمرازي الخازندار ثم شيخ الخدام بالحرم النبوي في أواخر هذه السنة. وكان أصله من خدام الأمير تمراز الظاهري النائب وصار جمدارًا في أواخر دولة الملك المؤيد شيخ ودام على ذلك سنين إلى أن استقر به الملك الظاهر خازندارًا بعد موت جوهر القنقبائي فلم تطل مدته في الخازندارية وعزله السلطان بالطواشي فيروز النوروزي الرومي رأس نوبة الجمدارية وصادره ثم ولاه مشيخة الخدام بالحرم النبوي إلى أن مات واستقر بعده في مشيخة الحرم الطواشي فارس كبير الطواشية هناك. وكان حبشي الجنس مليح الشكل كريمًا حشيمًا متواضعًا لطيفًا وعنده فهم وذوق وله محاضرة مع تجمل في أحواله وكان بخلاف أبناء جنسه في تحصيل المال بل كان يصرفه في معايشه ويقصد الترف والعيش الرغد ويظهر النعمة ويبر أصحابه بحسب طاقته رحمه الله أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وستة وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا واثنان وعشرون إصبعًا.
|